الرحمة


من النظرات..قراءة :أماني عيسى

سأكون في هذه المرة شاعراً بلا قافية ولا بحر، لأني أريد أن أخاطب القلب وجهاً لوجه، ولا سبيل إلى ذلك إلا سبيل الشعر.
إن البذور تلقي في الأرض فلا تنبت إلا إذا حرث الحارث تربتها، وجعل عاليها سافلها، كذلك القلب لا تبلغ منه العظة إلا إذا داخلته، وتخللت اجزاءه، وبلغت سويداءه، ولا محراث للقلب غير الشعر.
الرحمة..مصطفى لطفي المنفلوطي


أيها الرجل السعيد: كن رحيماً، اشعر قلبك الرحمة، ليكن قلبك الرحمة بعينها.
ستقول: إني غير سعيد، لأن بين جنبي قلباً يلم به من الهم ما يلم بغيره من القلوب، أجل. فليكن ذلك كذلك، ولكن اطعم الجائع واكس العاري، وعز المحزون، وفرج كربة المكروب، يكن لك من هذا المجموع البائس خير عزاء يعزيك عن همومك واحزانك، ولا تعجب أن يأتي النور من سواد الحلك، فالبدر لا يطلع إلا إذا شق رداء الليل، والفجر لا يدرج إلا من مهد الظلام.
لقد بليت اللذات كلها.. ورثت حبالها.. وأصبحت أثقل على النفس من الحديث المعاد..ولم يبق ما يعزى الإنسان عنها إلا لذة واحدة: هي لذة الإحسان.
إن منظر الشاكر منظر جميل جذاب.. ونغمة ثنائه وحمده أوقع في السمع من العود في هزجه ورمله [الهزج والرمل: نوعان من الموسيقى.] واعذب من نغمات معبد في الثقيل الأول. [معبد: أحد كبار المغنين في العصر الأموي، والثقيل الأول: ضرب من ضروب الغناء.]
أحسن إلى الفقراء والبائسين، واعدك وعداً صادقاً انك ستمر في بعض لياليك على بعض الأحياء الخاملة فتسمع من يحدث جاره عنك من حيث لا يعلم بمكانك، إنك أكرم مخلوق، وأشرف إنسان، ثم يعقب الثناء عليك بالدعاء لك إن يجزيك الله خيراً بما فعلت.. فيدعو صاحبه بدعائه، ويرجو برجائه.. وهنالك تجد من سرور النفس وحبورها بها الذكر الجميل في هذه البيئة الخاملة: ما يجده الصالحون إذ ذكروا في الملأ الأعلى.
ليتك تبكي كلما وقع نظرى على محزون أو مفؤود [المفؤود: المصاب في فؤاده بألم أو غيره.] فتبتسم سروراً ببكائك.. واغتباطاً بدموعك، لأن الدموع التي تنحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور.. تسجل لك في تلك الصحيفة البيضاء: إنك إنسان.
إن السماء تبكي بدموع الغمام.. ويخفق قلبها بلمعان البرق.. وتصرخ بهدير الرعد، وإن الأرض تئن بحفيف الريح.. وتضج بأمواج البحر، وما بكاء السماء ولا أنين الأرض إلا رحمة بالإنسان.. ونحن أبناء الطبيعة فلنجارها في بكائها وأنينها.
إن اليد التي تصون الدموع، أفضل من اليد التي تريق الدماء، والتي تشرح الصدور. أشرف من التي تبقر البطون، فالمحسن أفضل من القائد وأشرف من المجاهد، وكم بين من يحيى الميت. ومن يميت الحي.
إن الرحمة كلمة صغيرة.. ولكن بين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما بين الشمس في منظرها. والشمس في حقيقتها.
وإذا وجد الحكيم بني جوانح الإنسان ظالته من القلب الرحيم.. وجد المجتمع ضالته من السعادة والهناء.
لو تراحم الناس لما كان بينهم جائع ولا مغبون ولا مهضوم.. ولأقفرت الجفون من المدامع.. ولا طمأنت الجنوب في المضاجع. ولمحت الرحمة الشقاء، من المجتمع كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام.
لم يخلق الله الإنسان ليقتر عليه رزقه. ولم يقذف به في هذا المجتمع ليموت فيه جوعاً.. بل أرادت حكمته أن يخلقه ويخلق له فوق بساط الأرض وتحت ظلال السماء ما يكفيه مؤونته. ويسد حاجته.. ولكن سلبه الرحمة فبغى بعضه على بعض وغدر القوي بالضعيف واحتجن دونه رزقه.. فتغير نظام القسمة العادلة.. وتشوه وجهها الجميل.. ولو كان للرحمة سبيل إلى القلوب لما كان للشقاء إليها سبيل.
الفرد هو المجتمع.. وإنما يتعدد بتعدد الصور.. أتدري متى يكون الإنسان إنساناً؟ متى عرف هذه الحقيقة حق المعرفة وأشعرها نفسه. فخفق قلبه لخفقان القلوب وسكن لسكونها. فإذا انقطع ذلك السلك الكهربائي بينه وبينها، انفرد عنها واستوحش من نفسه، وإذا كان الأنس مأخذ [مأخذ الكلمة: أصل اشتقاقها.] الإنسان المجتمع.. فالوحشة مأخذ الوحش المنقطع.
وجماع القول انه لا يمكن أن تجتمع رحمة الرحماء وشقوة الاشقياء في مكان واحد؛ إلا إذا أمكن أن يجتمع في بقعة واحدة الملك الرحيم والشيطان الرجيم.فالإنسان المجتمع.. فالوحشة مأخذ الوحش المنقطع.وجماع القول انه لا يمكن أن تجتمع رحمة الرحماء وشقوة الاشقياء في مكان واحد؛ إلا إذا أمكن أن يجتمع في بقعة واحدة الملك الرحيم والشيطان الرجيم.
إن من الناس من تكون عنده المعونة الصالحة للبر والإحسان فلا يفعل.. فإذا مشى مشى مندفعاص مندلثاً [اندلث: كاندفع.] يلوي على شيء مما حول من المناظر المؤثرة المحزنة، وإذا وقع نظره على بائس لا يكون نصيبه منه إلا الاغراق في الضحك سخرية به وببذاءة ثوبه ودمامة خلقه، وإن من الناس من إذا عاشر الناس عاشرهم ليعرف كيف يحتلب درتهم [الدرة: اللبن إذا كثر وسال.] ويمتص دماءهم، ولا يعاملهم إلا كما يعامل شويهاته وبقراته.. لا يطعمها ولا يسقيها إلا لما يترقب من الربح في الاتجار بألبانها وأصوافها.. ولو استطاع أن يهدم بيتاص ليربح حجراً لفعل.. وإن من الناس لا حديث له إلا الدينار وأين مستقره وكيف الطريق إليه وما السبيل إلى حبسه والوقوف في وجهه والحيطة لفراره.. يبيت ليله حزيناً كئيباص لأن خزانته ينقصها درهم كان يتخيل في يقظته أو يحلم في منامه أنه سيأتيه فلم يقيض له، وإن من الناس من يؤذي الناس لا يجلب لنفسه بذلك منفعة أو يدفع عنها مضرة، بل لأنه شرير يدفعه طبعه إلى ما لا يعرف وجهه أو ليضري [يقال: أضري فلان كلبه بالصيد، وضراه: إذا أغراه به وعوده متابعته.] نفسه بالأذى مخافة أن ينساه عند الحاجة إليه.. حتى لو لم يبق في العالم شخص غيره لكانت نفسه مدب عقاربه وغرض سهامه.. وإن من الناس من إذا كشف لك عن أنيابه رأيت الدم الأحمر يترقرق فيها، أو عن أظافره رأيت تحتها مخالب حادة لا تسترها إلا الصورة البشرية، أو عن قلبه رأيت حجراً صلداً من أحجار الغرانيت لا يبض [بض الدم: سال]. بقطرة من الرحمة.. ولا تخلص إليه نسمة من العظة.
فيا أيها الإنسان احذر الحذر كله أن تكون واحداً من هؤلاء فانهم سباع مفترسة وذئاب ضارية.. بل اعظك أن لا تدنو من واحد منه أو تعترض طريقه.. فربما بدا له أن يأكلك غير حاف بك.. ولا آسف عليك.
أيها الإنسان. ارحم الأرملة التي مات عنها زوجها، ولم يترك لها غير صبية صغار، ودموع غزار، ارحمها قبل أن ينال اليأس منها ويعبث الهم بقلبها فتؤثر الموت على الحياة.
ارحم المرأة الساقطة لا تزين لها خلالها ولا تشتر منها عرضها علها تعجز عن أن تجد مساوماً يساومها فيه فتعود به سالماً إلى كسر بيتها.
أرحم الزوجة أم ولدك وقعيدة بيتك ومرآة نفسك وخادمة فراشك لأنها ضعيفة، ولأن الله قد وكل أمرها إليك، وما كان لك أن تكذب ثقته بك.
ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه ونفسه فإنك ألا تفعل قتلته أو أشقيته فكنت أظلم الظالمين.
ارحم الجاهل لا تتحين فرصة عجزه عن الانتصاف لنفسه فتجمع عليه بين الجهل والظلم، ولا تتخذ عقله متجراً تربح فيه ليكون من الخاسرين.
ارحم الحيوان لأنه يحس كما تحس ويتألم كما تتألم ويبكي بغير دموع، ويتوجع ولا يكاد يبين.. ارحمه وكذب من يقول إن الإنسان طبع على ضرائب لؤم، أقلها أنه يقبل يد ضاربه ويضرب من لا يمد إليه يداً.
ارحم الطير لا تحبسها في أقفاصها ودعها تهيم في فضائها حيث تشاء، وتقع حيث يطيب لها التغريد والتنقير، إن الله وهبها فضاء لا نهاية له فلا تغتصبها حقها فتضعها في محبس لا يسع مد جناحها؛ أطلق سبيلها وأطلق سمعك وبصرك وراءها لتسمع تغريدها فوق الأشجار، وفي الغابات، وعلى شواطئ الأنهار. وترى منظرها وهي طائرة في جو السماء، فيخيل إليك أنها أجمل من منظر الفلك الدائر والكوكب السيار.
أيها السعداء. أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.



التعليقات : 1

Unknown

شكرا لك
موقع رائع
موسوعة كيف للعلم والمعرفة
http://www.kif3.com/

إرسال تعليق


أخي الكريم، رجاء قبل وضع أي كود في تعليقك، حوله بهذه الأداة ثم ضع الكود المولد لتجنب اختفاء بعض الوسوم.
الروابط الدعائية ستحذف لكونها تشوش على المتتبعين و تضر بمصداقية التعليقات.

المشاركات الشائعة